انتهت "المؤامرة"، كما وصفها رئيس مجلس النواب نبيه بري، وأيّده في ذلك الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، بأقلّ الأضرار. بقي المجلس النيابي "صامداً"، بعد تعطيل "لغم" الاستقالة الجماعية التي كان البعض يدفع باتجاهها، ولو تحوّلت الحكومة إلى "قربانٍ"، فتمّت "التضحية" بها كرمى لعيونه.
أقلّ الأضرار اقتصرت على استقالة ثمانية نوّاب من الندوة البرلمانية، قدّموا الكثير من التبريرات التي قد تبدو "مقنعة" للانسحاب، لعلّ أهمّها أنّ "المعارضة من داخل المؤسسات لم تعد مُجدية"، بدليل "عجز" رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل، على حدّ قوله، عن تأمين عشرة نواب يوقّعون على عريضة لمساءلة الحكومة فقط لا غير.
بيد أنّ هذه "التبريرات" كلّها تصبح "ساقطة" بمجرّد اصطدامها بما يُحكى، وبدأ بعض النواب المستقيلين أنفسهم يجاهرون به، عن "رغتبهم" بالترشّح من جديد، بل إنّ معظمهم "يضمن" العودة وفقاً للنظام الأكثري الذي تجري بموجبه الانتخابات الفرعية، ما يفتح علامات استفهام كُبرى، أولها وأهمّها، لماذا استقالوا من الأصل؟!.
لماذا استقالوا؟!
حين سُئل النائب المستقيل مروان حمادة في حديثٍ تلفزيونيّ عمّن يمكن أن يترشّح مكانه، قال بلهجة "الواثق" انّ القرار الأول والأخير سيكون لرئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، منبّهاً أيّ "طامحٍ" للترشّح إلى أنّ النظام الأكثري لا يعطي "فرصاً" سوى لمن يختاره الأخير، قبل أن يضيف أنّه قد يكون "صاحب الحظّ" بالترشّح من جديد، إذا ما رغب "وليد بيك" بذلك.
ما قاله حمادة يتلاقى بشكلٍ أو بآخر، رغم الاختلافات، مع ما قالته ممثّلة المجتمع المدني النائب بولا يعقوبيان التي شدّدت في حديث صحافي على أنّ قرارها "في كل مرة يكون هناك مواجهة مع السلطة هو بخوض هذه المواجهة"، تاركةً بذلك المجال للترشّح من جديد للعودة إلى البرلمان، علماً أنّها كانت أكثر وضوحاً في حديث إذاعي، حيث نُسِب إليها القول بصراحة: "قد أكون أنا المرشحة للانتخابات الفرعية".
تثير مثل هذه "التصريحات" الكثير من "الاستغراب"، وربما "الدهشة"، لدى الكثيرين، وبعضهم من مؤيّدي خطّ بعض النواب المستقيلين، وممّن "هلّلوا" لقرار الاستقالة، وإصرارهم عليه حتى بعد دعوة رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع لهم بالعودة عنه باعتبار أنّه لن يكون "ذي جدوى" طالما أنّه لن يفضي إلى انتخابات نيابية مبكرة كما كانوا يتطلّعون. ويسأل هؤلاء عن "الجدوى" إذاً من الاستقالة، والانتخابات الفرعيّة التي ستكبّد الخزينة، إذا ما كانوا "يتطلّعون" للعودة وكأنّ شيئاً لم يكُن.
ولا يبدو تذرّع أوساط النواب المستقيلين بأنّ الترشّح من جديد، إذا حصل، سيكون "حتى تعرف قوى السلطة أن الإرادة الشعبية باتت ضدهم"، موفَّقاً لا في الشكل ولا في المضمون، خصوصاً أنّ الاستقالة جاءت أصلاً لأنّ "التعايش" مع هذا المجلس النيابي بات "مستحيلاً"، كما قالوا، وهم ربما على حق، بعدما أثبت البرلمان عجزاً وشللاً كبيريْن، وهو الذي لم يجتمع أصلاً، ولو من باب "رفع العتب"، إلا بعد عشرة أيام على كارثة كبرى بحجم انفجار المرفأ، وبالتالي فإنّ العودة إليه، من دون أن يتغيّر شيءٌ فيه، ستكون أشبه بـ"الضحك على الذقون".
المعركة "مؤجّلة"!
إذا كان النائبان مروان حمادة وبولا يعقوبيان أدليا بدلوهما خلال الأيام الماضية من استحقاق الانتخابات الفرعية، ومهّدا لإمكان خوضه من جديد وكأنّ شيئاً لم يكُن، فإنّ نواباً مستقيلين آخرين، بينهم نواب "الكتائب" مثلاً، فضّلوا ربما، وحتى إشعارٍ آخر، "الصمت" ريثما تنضج الأمور، أو بالحدّ الأدنى تتمّ الدعوة رسمياً إلى الانتخابات الفرعية.
ويقول المروّجون لهذا "الصمت" إنّه يبقى أفضل، أولاً لعدم "التشويش" على قرار الاستقالة، الذي لاقى أصداءً طيّبة وإيجابية في الشارع "المنتفض" على السلطة بكافة مكوّناتها وأشكالها، وثانياً لعدم منح القوى الحاكمة "شيكاً على بياض"، تنطلق منه في بلورة "حساباتها" بالنسبة إلى الانتخابات الفرعية، خصوصاً أنّ احتمال "تنصّل" السلطة من مسؤولياتها في الدعوة إلى هذا الاستحقاق "واردة"، ولا يجب بالتالي استباق ذلك عبر تحويل الأنظار إلى قرار النواب المستقيلين، بما يخفّف من وقع أيّ "مخالفة للقوانين".
وعلى رغم أنّ القانون يفرض بنصوصه الواضحة والصريحة إجراء الانتخابات الفرعية لملء أيّ شغور في البرلمان، خلال مهلة شهرين من حصوله، ولا يُستثنى من ذلك سوى أن يكون الشغور قد حصل خلال الأشهر الستّة الأخيرة من ولاية البرلمان، فإنّ "السوابق" الكثيرة تترك احتمال عدم إجراء الانتخابات الفرعية من أساسها وارداً، ولو أنّ ذلك سيكون مُبالَغاً به باعتبار أنّه لم يسبق أن استقال ثمانية نواب دفعةً واحدة.
وفي وقتٍ يستبق بعض المحسوبين على السلطة الأمر، بالحديث عن "ظروف قاهرة" قد تمنع إجراء الانتخابات، وقد تبدو أكثر إقناعاً من تلك التي أملت التمديد للبرلمان مرّتين في السابق، خصوصاً في ضوء الوضع الأمني الناشئ بعد انفجار المرفأ، وقبله التعبئة العامة المفروضة بموجب "كورونا"، والتي يُتوقَّع أن تزداد "صرامتها" في الأيام المقبلة مع الازدياد "المخيف" في عدد الحالات، يشدّد القانونيّون على أنّ كلّ هذه "الذرائع" لا يمكن أن تمرّ، فالنصّ واضح، كما أنّ الدولة التي أصرّت على إجراء امتحاناتٍ جامعيّة رغم تفشّي الوباء، يمكنها أن تجري الانتخابات، مع اعتماد كلّ الإجراءات الوقائيّة اللازمة.
مجرّد "مناورة"!
ليست استقالة النواب من البرلمان "مؤامرة"، بل هي حقٌ ديمقراطيّ مشروع لأيّ نائب يعتبر نفسه ممثّلاً للشعب، إذا ما شعر أنّ موكّليه "غاضبون" على السلطة برمّتها، والبرلمان من ضمنها، ولو أنّ "الفصل" بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ضروري، وأنّ خيار ترك المجلس لفريقٍ واحدٍ لن يكون "مثالياً".
وفق المنطق نفسه، قد يكون الترشّح من جديد للنواب المستقيلين "حقاً مشروعاً" لهم، لكنّه مع ذلك، يبدو غريباً، وأقرب إلى "المنطق" الذي تتسلّح به السلطة في تبرير قراراتها التي لا تنسجم أبداً مع شعاراتها ووعودها، والتي لا يُرتجى منها في أغلب الأحيان أكثر من البحث عن بعض "المكاسب" السياسية والانتخابية.
الأكيد أنّ الانتخابات الفرعية، على المقاعد الشاغرة شبه المضمونة، لن تكون "استفتاءً"، خصوصاً أنّها تتمّ وفق نظامٍ أكثريّ مُعلَّبٍ معروف النتائج سلفاً، ما يتطلّب من النواب المستقيلين إعادة النظر بموقفهم قبل فوات الأوان، وحتى لا يخسروا كلّ ما كسبوه بقرارهم "الجريء" بالاستقالة، إذا ما ثبُت بالدليل الملموس أنّه لم يكن أكثر من "مناورة"، كما يقول خصومهم...